مدخل عن أهمية السلسلة ومكانتها

الأصل عند الصوفية في قضية السلسلة وأخذ العهد بالتلقين والتلقي على يد الشيخ ، والبيعة له ، أو أخذ العهد على الشيخ المرشد أنه سنة مسنونة، والدليل على ذلك :

1- أن البيعة كانت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم في أمور شتى، فأخذُها في أمر واحد لا يضر، لقوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح 10] .

2- والقياس على حديث: "مَنِ ادَّعَى إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ، أَوِ انْتَمَى إِلَى غَيْرِ مَوَالِيهِ، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ" ([1])، ووجه القياس: أن من لم يعرف آباءه وأجداده في الطريق فهو أعمى، وربما انتسب إلى غير أبيه،... والروح ألصق بك من حقيقتك، فأبو الروح يليك، وأبو الجسم بعده، فكان بذلك أحق بأن تنتسب إليه، وقد اندرج السلف الصالح على تعليم المريدين آداب آبائهم([2]).

3- وَعَنْ يَعْلَى بْنِ شَدَّادٍ قَالَ: حَدَّثَنِى أَبِى شَدَّادُ بْنُ أَوْسٍ - وَعُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ حَاضِرٌ يُصَدِّقُهُ - قَالَ: "كُنَّا عِنْدَ النَّبِى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " هَلْ فِيكُمْ غَرِيبٌ؟ " - يَعْنِى أَهْلَ الْكِتَابِ - قُلْنَا: لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَمَرَ بِغَلْقِ الْبَابِ وَقَالَ: " ارْفَعُوا أَيْدِيَكُمْ وَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ". فَرَفَعْنَا أَيْدِينَا سَاعَةً، ثُمَّ وَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ..."([3]). فأفاد ضمن ما فيه من فوائد هذا الحديث التلقين بالذكر، والاجتماع عليه.

ولهذا قال الإمام الجنيد رضى الله عنه (ت 297 هـ): "سبق في علم الله القديم ألا يدخل أحد حضرته إلا على يد عبد من عباده" ([4]).

وطريق السادة الشاذلية مبنية على الصحبة والاقتداء، لا على الخرقة والتلقين([5])، ومن ثم لا تقتصر أهمية السلسلة على دلالتها التاريخية على النشأة والتطور التاريخي من خلال تتبع رجال السلسلة ودورهم في تاريخ الطريقة.

ولكن أيضا السلسلة تشير إلى منابع أصول الطريقة، وواضعي منهجها، ومقرري نظرياتها الصوفية.

ولا شك أنه منذ أسس علماء الإسلام المنهج النقلي، ضبطوه ضبطا غاية في الإتقان من أجل الاطمئنان إلى صحة النص الشرعي المنقول، سواء في القرآن الكريم، والذى يُنقل إلينا من خلال أسانيد القراءات، أو في السنة النبوية الشريفة والتي تُنقل إلينا من خلال أسانيد الأحاديث، أو في الفقه والذى ينقل إلينا عبر أسانيد المذاهب، وهكذا في سائر العلوم.

وهنا تأتى الدلالة المهمة في مسألة سلاسل الطرق، والتي حرصت عليها عامة الطرق الصوفية، وهى أنهم يريدون أن يعطونا إشارة إلى أن الطريق نقل واتباع واقتداء، وليس هو بأمر عقلي، ولا مُختَرع.

وربما نجد أيضا جذور هذا التقليد مبكرا قبل نشأة الطرق الصوفية بمعناه الحرفي في ذكر شيوخ الطريق الصوفي الذين عليهم المعول عند الكلاباذي (ت 380 هـ)، والذى قدم سردا – لا تراجم – لأسماء رجال الصُّوفِيَّة مِمَّن نطق بعلومهم وَعبر عَن مواجيدهم وَنشر مقاماتهم وَوصف أَحْوَالهم قولا وفعلا بعد الصَّحَابَة رضوَان الله عَلَيْهِم، ثم ذكر أسماء مَن نشر عُلُوم الْإِشَارَة كتبا ورسائل، وختم ذكرهم بقوله: "وَهَؤُلَاء هم الْأَعْلَام المذكورون المشهورون الْمَشْهُود لَهُم بِالْفَضْلِ الَّذين جمعُوا عُلُوم الْمَوَارِيث إِلَى عُلُوم الِاكْتِسَاب، سمعُوا الحَدِيث وجمعوا الْفِقْه وَالْكَلَام واللغة وَعلم الْقُرْآن. تشهد بذلك كتبهمْ ومصنفاتهم، وَلم نذْكر الْمُتَأَخِّرين وَأهل الْعَصْر وَإِن لم يَكُونُوا بِدُونِ من ذكرنَا علما لِأَن الشُّهُود يُغنى عَن الْخَبَر عَنْهُم"([6]).

ونرى التقليدَ نفسه عند القشيري([7]) (ت 465 هـ) في الرسالة، إلا أنه لم يكتف بسرد الأسماء، بل ترجم تراجم مختصرة لمن ذكرهم، حيث عقد الباب الثالث في ذكر مشايخ هذه الطريقة وَمَا يدل من سيرهم وأقوالهم عَلَى تعظيم الشريعة([8])، ثم ترجم لأكثر من ثمانين شيخا من شيوخ التصوف، من شتى المشارب الصوفية، ولا يمثلون مدرسة ما أو مذهبا صوفيا بعينه، ويقول: "كَانَ الغرض من ذكرهم في هَذَا الموضع التنبيه عَلَى أنهم مجمعون عَلَى تعظيم الشريعة، متصفون بسلوك طرق الرياضة، مقيمون عَلَى متابعة السنة، غَيْر مخلين بشيء من آداب الديانة... ولو تتبعنا ما ورد عَنْهُم من ألفاظهم وحكاياتهم ووصف سيرهم، مِمَّا يدل عَلَى أحوالهم لطال بِهِ الكتاب"([9]).

ولكن قضية [شيوخ الطريق] ستأخذ نحوا أكثر تحديدا، كلما مضت الطرق الصوفية في التبلور والتميز بخصائص سلوكية وسمات صوفية تجعل من كل طريق مدرسة بذاتها، ومن ثم لها سلسلتها الخاصة بها.

والانتساب إلى السادة الشاذلية وغيرهم من الصوفية إنما يحصل بالتلقين من شيخ تلقن عن شيخه بالإذن والسند الصحيح إلى إمام الطريقة، وهو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبسر هذا التلقين يحصل ارتباط القلوب بعضها ببعض إلى باب الله الأعظم محمد صلى الله عليه وسلم([10]).

ويؤكد أحد رجال الشاذلية المتأخرين على أهمية السلسلة عندهم بقوله:"وجب علينا أن نذكر سندنا ونبين نسبتنا في هذه الطريق الدرقاوية التي هى لب الطرق الاتصالية الجامعة بين الجيلانية والشاذلية المؤسسة على الكتاب والسنة ... إذ في اتصال سببنا بسببهم ونسبتنا بنسبتهم استمطارا للرحمات الإلهية وتحريكا للسلسلة النبوية. مع أن الإسناد من الدين في كل وقت..." ([11]).

ومن الملاحظات المهمة عند الكلام على سلاسل الطريقة الشاذلية هو خفاء تراجم بعض رجالها على الباحثين، وهو لا يوجب شيئًا في هذا السند ، ولا يكسبه ضعفا ولا علة لما علم من أن علماء الظاهر لا يعتنون بمعرفة رجال هذه الطريق، ولا بالتعريف بهم لعدم ترتب حكم شرعي على ذلك كما يترتب عليه في نقل الحديث، وإنما يعتني بذلك أهله المنتسبون... ثم العلم بهؤلاء السادات الماضين من حيث الظاهر إنما هو بالشهرة والسماع، وقد يكون الإنسان في قطر شهيرًا، وأهل قطر آخر لا يعرفونه، وهو لم يطأ تلك الأقطار كلها حتى يستقرئ المجهول من المعلوم... وحيث لم يعرفهم ولا عرف شهرتهم فليستند إلى من عرفهم وعرفها ، حتى لا يحكم على معلوم بجهالة ولا على مستور بخمالة([12]).

والحاكم بعدم الوقوع على ترجمة أحد الأعلام إنما نسب الجهل إلى نفسه بهم، وعدم وقوفه على تراجمهم، وذلك لا يستلزم أن يكونوا في نفس الأمر مجهولين([13]).

وظاهرة خفاء تراجم أغلب رجال السلسلة الشاذلية - فيما قبل ابن مشيش ، وهى السلسلة الأكثر تداولا بينهم - يشير إليها الشيخ أبو العباس المرسى بقوله: "طريقتنا هذه لا تنسب للمشارقة ولا للمغاربة بل واحد عن واحد إلى الحسن بن على بن أبى طالب وهو أول الأقطاب، وإنما يلزم تعيين المشايخ الذين يستند إليهم طريق الانتساب من كانت طريقته بلبس الخرقة فإنها رواية، والرواية تتعين بتعيين رجال سندها، وهذه هداية"([14]).

وطبيعة السلسلة عند السادة الشاذلية مبنية على الصحبة والاقتداء، ومن ثم فالشاذلية لا يثبتون السلسلة بالأخذ بالروحانية التي عند بعض الطرق الأخرى كالنقشبندية، بل واشتراط الشاذلية الصحبة والاقتداء، يجعل مجرد اللقى أو الإدراك الزماني غير كاف بين رجال السلسلة، ومع خفاء تراجم بعضهم، وقع الكثير من الصعوبات في تعيين بعض رجالها.



([1]) الحديث أخرجه مسلم (ح 1370) عن على بن أبى طالب كرم الله وجهه. والحديث أصله فى البخارى بنحوه فى مواضع أقربها إلى اللفظ هنا (ح 7300).
([2]) الشعرانى، "مدارج السالكين إلى رسوم طريق العارفين"- مخطوطة، (ق 2 و).
([3]) الحديث أخرجه أحمد فى مسنده (ح 17121)، قال الهيثمى فى مجمع الزوائد (10/ 81): "وفيه راشد بن داود، وقد وثقه غير واحد، وفيه ضعف، وبقية رجاله ثقات".
([4]) أحمد بن الصديق الغمارى، "البرهان الجلى"، (ص 3).
([5]) أحمد بن الصديق الغمارى، "البرهان الجلى"، (ص 6).
([6]) الكلاباذي، "التعرف لمذهب أهل التصوف"، (ص 27 - 33).
([7]) للمزيد بخصوص القشيري وحياته وآرائه راجع: - أ/د إبراهيم بسيوني، الإمام القشيري - سيرته، آثاره، مذهبه فى التصوف. - د/ رانيا محمد عزيز نظمى، المنهج الإشارى فى تفسير الإمام القشيرى. بالإضافة إلى مقدمات أ/د إبراهيم بسيونى، وأ/د أحمد علم الدين الجندى لما حققاه بالاشتراك أو منفردين من تراث القشيرى.
([8]) القشيري، "الرسالة"، (1/ 34 - 149). زكريا الأنصاري، "إحكام الدلالة"، (1/ 74 - 243).
([9]) القشيري، "الرسالة"، (1/ 127). وللمزيد عن السلسلة عند الصوفية، راجع: الشعراني، مدارج السالكين إلى رسوم طريق العارفين، (ق 2 و – ق 5 و). أ/د حسن الشافعى، " فصول فى التصوف "، (ص 65، 176 - 180).
([10]) العيسوي، "نعيم الجنان "، (ص 102). ولكيفية أخذ العهد عند الشاذلية، انظر: المصدر السابق، (ص 107 – 108).
([11]) أحمد بن الصديق الغماري، "البرهان الجلي"، (ص 3-4) باختصار.
([12]) نقله أحمد بن الصديق الغماري، "البرهان الجلي"، عن القادري في " المقصد الأحمد " مقرا له (ص 7- 8).
([13]) أحمد بن الصديق الغمارى، "البرهان الجلي"، (ص 9).
([14]) ابن عطاء الله السكندري، "لطائف المنن"، (ص 93 ). أحمد بن الصديق الغماري، "البرهان الجلي"، (ص 16). عصام أنس الزفتاوي، "المنهج الصوفي بين الطريقتين النقشبندية والشاذلية"، (ص 16- 19).

قراءة 2293 مرات آخر تعديل في الخميس, 02 آب/أغسطس 2018 18:48
المزيد في هذه الفئة : السند الجملي »
Top