الشيخ الإمام، العارف الهمام، منبع التوحيد، ومعدن التجريد والتفريد، بحر المعرفة الزخار، وغيث المدد الوابل المدرار، الواصل الكامل المحقق، المجذوب المقرب المستغرق، ذو الإشارات العلية، والحقائق السنية، والمواجد الربانية، والإشراقات العرفانية، الملامتي؛ أبو الفضل سيدي قاسم بن الحاج قاسم بن قاسم الخَصاصي (بفتح الخاء المعجمة، وتخفيف الصاد). به عرف. شريف يمني الجذور أندلسي الأصول، و هو فاسي دارا ومولدا ومنشأ وضريحا. وقولنا: الخصاصي. نسبة إلى: خصاصة باليمن. وتنسب لأسرته كذلك خصاصة وهي مدينة على شاطيء البحر بجبل قلعية بالريف المغربي، ذات مياه وأجنة، لا عمارة بها الآن. كان بها سلفه، وكان لهم بها شهرة في الولاية و العلم، ولبعضهم بها وهو: سيدي مسعود الخصاصي مزارة، ثم انتقلوا عنها بعد خلائها إلى الجبل المذكور، ثم إلى فاس. وحكي عنه أنه قال: "نحن من الأندلس؛ كان سلفنا هناك قبل ورودهم على قلعية".
ولد رحمه الله في حدود واحد أو اثنين وألف ، وربي يتيما في حجر أمه، لأن والده توفى وتركه في بطن أمه، و تعرف أسرته بالحسب والنسب حيث كان والده الحاج قاسم من أعيان فاس وشيوخها وهو سليل الولي سيدي مسعود الخصاصي الغرناطي الأندلسي اليمني المرابطي القلعي الأصل.
تربي بعدوة الاندلس إلى أن شب وبلغ الحلم، فكانت له صبوة وخلطة مع أتراب له من أهل حومته وغيرهم، كان هو يذكرها ويذكر ما صدر عنه من الأفاعيل بسببها، يعرف الناس بذلك فضل الله وإحسانه.
ثم هبت عليه عواطف التوبة؛ فألجأته إلى ضريح الشيخ أبي المحاسن الفاسي من غير قصد له به، إذ كان لا يعرفه ولا يعرف اسمه، فناداه: "يا صاحب هذا القبر؛ إن كنت وليا لله حقا، فنطلب منك أن يجمعني الله بشيخ نخدمه لله لا يخدمه معي أحد غيري". فجمعه الله بعد ذلك بشيخه الأول؛ وهو: سيدي مبارك بن عبابو الكوش، دفين خارج باب الجيسة. فصحبه مدة إلى وفاته، ثم صحب بعده العارف الفاسي، ولازمه، وسلب له الإرادة، وفتح له على يديه الفتح العظيم، وبقي في صحبته نحوا من عشر سنين، وكان يقول له: "أنت لي ولست لأحد غيري"، يشير والله أعلم بذلك أن فتحه كان على يده دون غيره، وكان يقول له أيضا: "أنت غريب؛ ليس لك أخ". يشير إلى أنه: غريب في طريقه وعرفانه وتحقيقه. ثم بعد وفاته ؛ صحب خليفته ووارثه سيدي محمد بن عبد الله معن الأندلسي، وبقي في صحبته ستة وعشرين سنة. وهؤلاء الثلاثة الأشياخ هم عمدته وإليهم سلب الإرادة؛ كما ذكره هو عن نفسه واحدا بعد واحد.
وكان يقول: إنه لقى ستة وعشرين شيخا، أو نحوهم، وهو رضى الله عنه الوارث لشيخه الأخير؛ وهو سيدي محمد بن عبد الله، أخبر بذلك تلميذه وولد شيخه المذكور: سيدي أحمد ابن عبد الله. وفي "المقصد": "إنه جلس يوما أصحاب سيدي محمد بعد موته يتحدثون متحيرين؛ كيف السبيل إلى معرفة وارثه؟!، وسيدي قاسم معهم. فقال لهم: ها هو السبع في وسطكم ولكن أين من يستخرجه ويتفطن له؟!".
وكان رحمه الله من أهل العناية الربانية، والأحوال النورانية، والغيبة في التوحيد، والاستغراق في بحر التحقيق، قوي الحال، فائض النور، فياض المدد، تغلب عليه الغيبة وتعتاده زيادتها في نحو خمسة أيام من كل شهر، فلا يعرف فيها الأرض من السماء، ولا يأكل ولا يشرب، إلا أنه يسأل عن أوقات الصلاة في كل ساعة، وقد يسأل عن صلاة نهارية بالليل. وكان إذا وقع ذلك لا يخرج من داره. وكانت طريقته: المحبوبية والفناء في التوحيد. لا يشير في كلامه إلا إليهما، ولا يعرج إلا عليهما، وينهض بالناس إلى الله من طريقهما، ولا يلوي على طريق الخوف ولا يشير إليه، ولا يحب من يقف مع الخوف وشهود مساويه؛ مخافة أن يقصر به ذلك عن النهوض إلى الله.
توفى رحمه الله ورضى عنه في وسط ليلة الأحد التاسع عشر من شهر رمضان المعظم سنة ثلاث وثمانين وألف 1083هـ/1672م,عن نحو اثنين وثمانين سنة.